قانون الأحوال الشخصية الأردني لسنة 2010 : خطوة إلى الوراء
بقلم: الدكتور نائل جرجس
لا مجال للشك في التقدم الذي أحرزه الأردن، مقارنة بالدول العربية، بمجال التنمية والتنظيم ومكافحة الفساد وحتى تحديث التشريعات القانونية. غير أنّ هذا التحديث لا يزال مقتصرا على بعض التشريعات دون غيرها ، وهذا ما نلاحظه من قراءة موضوعية لنصّ قانون الأحوال الشخصية الأردني الذي دخل حيز التنفيذ سنة 2010 . فالقانون لم يُحافظ فقط على القيود المنصوص عليها في القانون السابق المنسوخ، وخاصة المفروضة على الزواج المختلط والإجراءات المتخذة ضد المرتد، بل اتسمّ أيضا بتكريسه للطائفية وهضمه لحقوق المرأة والطفل والأقليات الدينية. وبذلك خطى الأردن إلى الوراء بتصديقه لهذا القانون الذي تُخالف نصوصه الحقوق الأساسية للإنسان وحريته الشخصية التي ضمنها الدستور الأردني وكذلك أبسط المبادئ الدولية لحقوق الإنسان وخاصة ما ورد في العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية، والذي صدّقته المملكة الأردنية الهاشمية بدون أي تحفظ.
وقد أكدّ هذا العهد الدولي في مادته 18 على (حق كل شخص في حرية الفكر والوجدان والدين. ويشمل ذلك حريته في أن يدين بدين ما، وحريته في اعتناق أي دين أو معتقد يختاره، وحريته في إظهار دينه أو معتقده…). وبهذا فإنّ الحرية الدينية تفترض حرية اعتناق أو عدم اعتناق أي دين، وكذلك تشتمل على حق كل شخص بتغيير ديانته أو عقيدته. وقد أشارت المادة 27 من نفس العهد على حق الأقليات بما فيها الدينية بالتمتع بثقافتهم الخاصة. كما أن اتفاقية حقوق الطفل، التي صادقت عليها الأردن، تنصّ على أن تحترم الدول الأطراف حق الطفل في حرية الفكر والوجدان والدين، وقد أكدّت ديباجتها على منع التمييز بين الأطفال وحماية صحتهم وسلامتهم الجسدية. وأخيرا تنصّ اتفاقية منع التمييز ضد المرأة لعام 1979 على المساواة التامة بين الجنسين واحترام حقوق المرأة التي لطالما عانت في مجتمعاتنا العربية التي تطغى عليها العقلية الذكورية، وخاصة في الأردن التي تحتل المراتب الأولى في جرائم “الشرف” سواء أكان على الصعيد العربي أو الدولي.
هذا وقد جاءت بعض نصوص قانون الأحوال الشخصية الجديد مخالفة لهذه المواثيق الدولية، فقد كرّس هذا القانون العديد من مواده لتهدر الحقوق المدنية والسياسية للمرتد عن الإسلام ونذكر منها المادة 48 التي تُلزم المرأة المرتدة بإعادة المهر وكذلك المادة 171 التي تحرمها من حضانة طفلها، وغيرها من المواد التي تحرم المرتد حتى من حقه في الزواج والإرث (أنظر المواد 45، 128، 142، 172،281).
إلاّ أنّ المفاجأة الأكبر جاءت لتحرم المرأة المسيحية لزوج مسلم من حضانة طفلها، وهذا ما أكدّته صراحة المادة 172 التي تُسقط حق الحضانة فيما إذا (تجاوز المحضون سن السابعة من عمره وكانت الحاضنة غير مسلمة). وهذا ما ذهب بعكس قرار سابق لمحكمة التمييز التي أجازت بموجبه الحق للمرأة المسيحية بحضانة طفلها حتى بلوغه سنّ التاسعة إذا كان المحضون ذكر وحتى سنّ الحادية عشر فيما إذا كانت أنثى ( قرار رقم 65/493). وطبعا يشكّل هذا الأمر خرق لمبدأ المساواة والحرية الدينية وأخطر ما فيه هو عدم الاكتراث بمصلحة الطفل التي يجب أن تُأخذ بعين الاعتبار عند إعطاء الحضانة سواء للمرأة أو للرجل وبصرف النظر عن الدين. كمّا أنّ تطبيق هذه المادة يُشجع على التحايل على القانون واعتناق الإسلام فقط من أجل الحصول على حضانة الطفل سواء أكان من طرف الرجل أو المرأة. كما يمكن أن يكون تغيير الدين بحسب هذا القانون من أجل تحقيق مكاسب أخرى كالحصول على حضانة الطفل أو للتخلص من دفع النفقة الزوجية وبقية الالتزامات أو للتمكن من الزواج مرة ثانية بالنسبة للمسيحي أو للحصول على قرار الطلاق الذي غالبا ما تصّعبه أو تحرّمه الطوائف المسيحية وخاصة الكاثوليكية. كما يتم تغيير الدين في بعض الأحيان من أجل الميراث حيث أنه (لا ميراث مع اختلاف الدين). وهذا ما يؤدي بالتأكيد إلى التشجيع على النفاق وزعزعة الاستقرار القانوني الذي يعدّ من أهم أركان السلم الاجتماعي.
ولابدّ من الإشارة إلى أنّ بعض أشكال التمييز تُطّبق بدون وجود نصّ صريح في قانون الأحوال الشخصية، وذلك لأن نقص التشريعات في القانون الحالي يُلزم القاضي بالرجوع إلى المذهب الحنفي المقنّن في كتاب قدري باشا، وهو ما تٌُشير إليه المادة 32 من هذا القانون.
وفي هذا السياق وجهّت لجنة حقوق الإنسان الأممية انتقادات لاذعة للحكومة الأردنية في ملاحظاتها الختامية التي نُشرت للتو والتي جاءت عقب فحص التقرير الدوري الرابع للدولة المعنية في الشهر الماضي. وأبرز ما ورد في توصيات اللجنة المذكورة، تمثّل في انتقاد الحكومة الأردنية لإجراءاتها المتخذة بحق المرتد وكذلك عدم الاعتراف بغير الديانتين المسحية والإسلامية كالبهائية أو أن يكون الشخص ملحد (لقراء التوصيات : CCPR/C/JOR/CO/4).
وللتذكير فإنّ أغلب الطوائف الدينية في الأردن لها محاكم وقوانين مستمدة بشكل أساسي من الشريعة الإسلامية بالنسبة للمسلمين ومن القانون الكنسي بالنسبة للمسيحيين. ومن هنا تبدأ عملية فرض الدين على الآخر غير المؤمن بالديانتين الإسلامية أو المسيحية كالعلماني مثلا أو حتى البهائي وغيره من المنتمين إلى أقليات دينية غير معترف بها رسميا والذي يجب أن يتبع في أوراقه الشخصية لأحد هاتين الديانتين بخرق واضح لمبد الحرية الدينية المنصوص عليها في العديد من الاتفاقيات الدولية لحقوق الإنسان. لذلك فإنّه من الضروري بأن يتم إقرار قانون يتيح الزواج المدني للأردنيين بصرف النظر عن انتمائهم الديني فجميعنا أبناء الإنسانية أولا والوطن ثانيا. حيث أنّ حظر الزواج المختلط يترتب عليه آثار اجتماعية وقانونية سيئة جدا كإنجاب أطفال خارج إطار العلاقة الزوجية وأيضا الغش على القانون وذلك بإقدام الراغبين بالزواج على تغيير الدين لمكاسب معينة كما ذكرنا أعلاه. أضف إلى هذا بأنّ الكثير من جرائم الشرف تعقب العلاقات بين أبناء الطوائف المختلفة التي غالبا ما يرفضها المجتمع لأسباب عديدة منها تكريس القوانين لهذا التحريم. مع الإشارة إلى أهمية الزواج المختلط خاصة لتحقيق الغنى الثقافي للمجتمع والقضاء على الطائفية. إن تقييد حرية الأشخاص في اختيار شريك الحياة يؤدي إلى القضاء على أسمى العلاقات الإنسانية من حب وتوافق عاطفي وبناء أسرة متماسكة كما إنّ هذا التحريم يتعارض أيضاً مع المعاهدات الدولية لحقوق الإنسان.
و رغم صعوبة إلغاء واستبدال قانون الأحوال الشخصية الحالي بقانون علماني في الوقت الراهن، فإن المطلب الأساسي يبقى بتحديث القانون الحالي أوباستصدار قانون مدني مع المحافظة على قوانين الأحوال الشخصية لكل طائفة، وبذلك يكون أمام أي شخصين راغبين بالزواج حرية الاختيار ما بين القانون المدني أو الديني أو حتى الاثنين معا كما هو الحال في أغلب الدول المتقدمة. إنّ إقرار هكذا تشريعات مدنية مستلهمة من حاجات العصر وتنطبق على الجميع بصرف النظر عن طوائفهم ومللهم، هو حق لكل مواطن يؤمن برفعة الدين عن السياسة.
ثم أنّ إنجاح هكذا مطلب في مجتمعات الشرق الأوسط بشكل عام وفي الأردن بشكل خاص، يتطلب اتخاذ بعض الخطوات الضرورية كتعميق ثقافة حقوق الإنسان والمواطنة وذلك بتعديل المناهج التعليمية الحالية التي لا تخدم على الإطلاق هذا الغرض. فيكفي أن نذكر على سبيل المثال ما شنّه الدكتور عمر سليمان الأشقر من هجوم على الزواج المدني في الغرب الذي بفضله تمكّن الأوربيون من العيش بسلام بعيدا عن سيطرة الكنيسة على الدولة وعلى القوانين. فيقول الدكتور سليمان، في كتابه الواضح في شرح قانون الأحوال الشخصية الذي يُدرّس في كلية الحقوق في الجامعة الأردنية، إنّ « الحكم في الزواج المدني للبشر الذي يجلسون على كراسي الحكم في البرلمان يحلون ويحرمون بأهوائهم، لقد حرم الغربيون تعدد الزوجات في (برلمانتهم)، و أباحوا الزنا واللواط والسحاق وقتل الأجنة في الأرحام. والمستغربون يريدوننا أن نسير سيرة العلمانيين وننبذ ديننا وشريعتنا كما فعلوا في دولهم التي هدمت الأسرة فيها، ودمّرت الأخلاق و تهاوت القيم». هذا و للأسف لم يتحدث الدكتور سليمان عن مساوئ الزواج الديني الحالي الذي يعمّق الفكر الطائفي و يزيد من ظلم المرأة والتمييز بين أبناء الوطن الواحد. كما أن إدخال هكذا مصطلحات، في كتاب يُدرّس للمسلمين وللمسيحيين على السواء، لن يؤدي إلا إلى تعميق مشاعر الكره والعداء ضد الآروبيين وتبني فكرة مغلوطة عن حضارتهم وثقافتهم بدلا من الاستفادة من تجربتهم في إقصاء سلطة رجال الدين عن السياسة وهذا ما سيؤدي بشكل حتمي إلى بناء دولة ديمقراطية مدنية عصرية.
وبالتأكيد ليس من المعقول أن نطالب بالإلغاء الكلي لقوانين الأحوال الشخصية الدينية المطبقة حاليا، حيث إنها تشكّل خيار للكثيرين من الأشخاص الذين يقبلونها بمحض إرادتهم وحريتهم، ولكنه ليس من المعقول أيضا أن نقبل ببعض نصوصها التي تتعارض مع حقوق الإنسان كزواج القاصرات. كما أنه من غير المعقول أن نفرض هذه القوانين على أشخاص لا يؤمنون بها ولاسيما وأنّ مشرّع هده القوانين هم رجال دين وليست الدولة الممثلة للشعب والتي من المفترض أن تكون صاحبة الحق الأساسي والحصري بالتشريع. ولابدّ من التذكير هنا بأنّ الدين في الأردن وغيرها من مجتمعات الشرق الأوسط يُفرض على الشخص في أغلب الأحيان نتيجة لولادته في أسرة تنتمي لطائفة أو لدين معين من دون أن يتمكن في وقت لاحق من اختيار قوانين مدنية تنطبق على وضعه العائلي رغم عدم إيمانه بالقوانين الدينية أو بالسلطة الدينية التي تطبق هكذا قوانين.
لذلك نرى بأنّ الحاجة قد أصبحت ملحّة لإصدار قانون أحوال شخصية ينسجم مع حقوق الإنسان بحيث يؤدي إلى النهوض بالمجتمع الأردني بشكل جذري نحو مرحلة جديدة من الوحدة الوطنية ومن تعزيز لدور الأقليات والمرأة في المجتمع. كما يجب البدء بتعديل صياغة القانون الحالي بشكل ينسجم مع النصوص الدولية لحقوق الإنسان والتي شاركت الأردن وبشكل فعّال بتقنينها والتصديق عليها. كما أنّ استئصال التمييز وانتهاك الحرية الدينية من قانون الأحوال الشخصية الحالي هو واجب إنساني ووطني، كما أنه فرض قانوني بمقتضى النصوص الدولية المذكورة والتي يجب أن تسمو على القوانين الداخلية وهو ما أكدّته اجتهادات محكمة التمييز الأردنية وخاصة في قرارها رقم 1991/38.
نخلص مما سبق إلى أنّ الإبقاء على تشريعات الأحوال الشخصية الدينية دون غيرها يشكل عقبة أمام تطور المجتمع الأردني وغيرها من مجتمعات الشرق الأوسط كما يتضمن تكريسا للطائفية ولسيطرة المؤسسة الدينية على المجتمعات. لذلك نقول بأننا اليوم في أمس الحاجة وأكثر من أي وقت مضى، إلى المساهمة في تعميق ثقافة العيش المشترك والتسامح الديني و المواطنة، ولذلك لا بدّ من أن نطالب الحكومة الأردنية كغيرها من الحكومات العربية بأنّ تسير بخطى فعاّلة نحو إصدار تشريعات مدنية تنطبق على جميع المواطنين بصرف النظر عن انتماءاتهم الدينية، لكي نستطيع استئصال جرثومة الطائفية التي ازدادت بشكل ملحوظ بعد الأحداث الأخيرة في منطقة الشرق الأوسط وخاصة احتلال العراق، وهو ما سيؤدي إلى تعزيز الانتماء إلى الوطن بدلا من الأقلية والطائفة والعشيرة، إلخ.