تقارير ودراسات

“كأنك تتنشق موتك”

حرق النفايات في الهواء الطلق في المجادل جنوبي لبنان. © 2017 هيومن رايتس ووتش

 

حرق النفايات في الهواء الطلق في لبنان ممارسة خطيرة ويمكن تفاديها. ولأنه يسبب خطر الإصابة بمشاكلصحية على المديين القصير والطويل، فإنه يستدعي التزام الحكومة اللبنانية القانوني بحماية صحة مواطنيها.

يأتي حرق النفايات في الهواء الطلق في لبنان نتيجة عدم معالجة الحكومة النفايات الصلبة بطريقة تلتزم القوانين البيئية والصحية التي من شأنها حماية الناس. يتعرّض الأطفال وكبار السن للخطر أكثر من غيرهم.

يتم الحرق في الهواء الطلق عندما تنهار خطط إدارة النفايات، مثلما حصل في بيروت وجبل لبنان خلال أزمة النفايات 2015 التي تكدّست خلالها النفايات في الشوارع. ولكن سببه أيضا أن الحكومة المركزية تولي الأولوية لبيروت وجبل لبنان في جمع النفايات – تنتج هاتان المنطقتان نصف نفايات لبنان المنزلية الصلبة فقط – في حين تترك البلديات الأخرى لتتدبر أمرها بنفسها دون أي دعم مالي أو تقني أو مراقبة.

قد يكون للحرق في الهواء الطلق آثار خطيرة على صحة السكان. وثّقت عدة دراسات علمية مخاطر الانبعاثات من المحارق في الهواء الطلق على صحة الإنسان. منها التعرّض لجزيئات دقيقة، الديوكسين، المركّبات العضوية المتطايرة، ومركبات كل من الهيدروكربون العطري متعدد الحلقات وثنائي الفينيل متعدد الكلور، التي ترتبط بأمراض القلب والسرطان وأمراض الجلد والربو وأمراض تنفسية. تتفاقم مخاطر حرق النفايات في الهواء الطلق لأنه في لبنان عادة لا يتم التخلّص بطريقة مناسبة من النفايات الصناعية والطبية، والتي قد تختلط بالنفايات الصلبة التي تنتجها البلديات.

وجدت “هيومن رايتس ووتش” أن الذين يسكنون بالقرب من أماكن الحرق المكشوفة يعانون من مشاكل صحية تتوافق مع التنشق المطوّل والمتكرر لدخان محارق النفايات. منها، مرض الانسداد الرئوي المزمن، السعال، التهابات الحلق، أمراض جلدية، والربو. في العديد من الحالات، وصف الذين تمت مقابلتهم علاقة زمنية بين حرق النفايات وأمراضهم؛ فقد أصيب بعضهم بالمرض بعد البدء بعمليات الحرق أو انتقالهم إلى أماكن يتم فيه الحرق. فيما قال آخرون إن عوارض مرضهم تدنّت بعدما أوقفت البلدية الحرق أو انتقلوا بعيدا عن مناطق الحرق.

بسبب آثاره المضرّة على الصحة، يستدعي حرق النفايات التزام لبنان بواجباته تجاه القانون الدولي لحقوق الإنسان. لبنان دولة عضو في “العهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية”، الذي يتطلب منه اتخاذ خطوات لتحقيق حق الإنسان “في التمتع بأعلى مستوى من الصحة الجسمية والعقلية يمكن بلوغه”.

في حين تلعب عوامل أخرى دورا في هذه الأمراض، فإن نسبة تلوث الهواء من حرق النفايات في الهواء الطلق، العلاقة بين هذه الأمراض وفترات الحرق، والمقابلات مع أطباء وخبراء آخرين في الصحة العامة تدل على علاقة سببية بين تلوث الهواء من حرق النفايات وسوء الأوضاع الصحية في المجتمعات المحلية.

قال 10 أطباء لهيومن رايتس ووتش إنهم يعتقدون أن المحارق المكشوفة تسبب أمراضا تنفسية. كما لاحظ أطباء في بيروت وضواحيها ارتفاعا في حالات الأمراض التنفسية في المناطق التي بدأت بحرق النفايات بعد أزمة إدارة النفايات في 2015.

شرح أشخاص يسكنون بالقرب من مكبات النفايات المكشوفة كيف أثّر حرق النفايات على أوجه حياتهم الأخرى: فلم يعد باستطاعتهم إمضاء وقت بالخارج، بدأوا يعانون من صعوبات في النوم بسبب تلوث الهواء، أو اضطروا إلى مغادرة منازلهم وقت الحرق. وأفاد بعض السكان أنهم اضطروا إلى الانتقال نهائيا إلى أماكن أخرى لتجنّب آثار الحرق المكشوف الصحية الممكنة.

وصفت ليلى، من سكان سن الفيل، إحدى ضواحي بيروت، تأثير حرق النفايات بالقرب من شقتها منذ صيف 2016، والذي كان لا يزال مستمرا حتى وقت إجراء المقابلة في نوفمبر/تشرين الثاني 2016:

أولا الرائحة. ثم يبدأ الدخان الأبيض بالتصاعد ويلف بنايتنا. يبدأ الحرق عادة في الليل ويستمر حتى الفجر. فأركض فورا إلى الشرفة لأُدخِل الملابس ثم أقفل جميع النوافذ والأبواب. ولكن الرائحة والدخان يبقيان. لا يمكننا تشغيل مكيف الهواء. لا يمكننا النوم. نبقى مستيقظين حتى

الصباح و[نشعر أننا] نختنق. حدث هذا الليلة الماضية، بدأ عند منتصف الليل. هذا لا يُحتمَل. حتى عندما أكون خارج المنطقة، يكون الدخان وكأنه لايزال في رئتيّ.

تكلمت الغالبية العظمى من السكان الذين قابلتهم هيومن رايتس ووتش عن آثار صحية ربطوها بمحارق النفايات المكشوفة وتنشق دخانها. قال 38 شخصا إنهم يعانون من أمراض تنفسية، منها مرض الانسداد الرئوي المزمن، السعال، التهاب الحلق، والربو. وبحسب العديد من المؤلفات العلمية، تتوافق هذه العوارض مع التعرّض لمحارق النفايات المكشوفة. سعى 32 شخصا إلى الحصول على العلاج الطبي لهذه الأمراض التنفسية وقال 2 منهم إن طبيبا أو مستشفى وصف لهما أقنعة أكسجين.

كما وثّقت هيومن رايتس ووتش 3 حالات تم الحرق خلالها بالقرب من مدارس. وفي إحداها، بالقرب من الناعمة، قال المسؤولون إن النفايات كانت تُرمى وتُحرق في الجهة المقابلة من الشارع على مدى 4 أيام خلال أكتوبر/تشرين الأول 2016، ما اضطرهم إلى اعتماد تدابير طارئة وإرسال الأطفال إلى منازلهم.

استخدمت هيومن رايتس ووتش طائرة من دون طيار فوق 3 مكبات كبيرة لأخذ صور جوية. في كل من المواقع الثلاثة، ظهرت في الصور آثار سوداء من عمليات حرق حديثة ورواسب رماد تشير إلى عمليات حرق سابقة.

بالإضافة إلى المخاوف الصحية المباشرة، قالت بعض الأُسر إن عدم اليقين مما إذا كانت المحارق ستسبب لهم مشاكل صحية أخطر، بما في ذلك السرطان، أثّر كثيرا على نفسيتهم. في حالة واحدة فقط قال المتحدث إن البلدية قدمت للأسرة معلومات عن مخاطر المحارق المكشوفة واحتياطات السلامة الواجب اتخاذها. في النتيجة، عبّر كثيرون عن خوفهم من مخاطر مجهولة والقلق حول التأثير المحتمل للمحارق المفتوحة على صحتهم وصحة أولادهم. كما عبّر الأهل عن إحباطهم بسبب عجزهم عن حماية أطفالهم من الآثار الصحية المحتملة للحرق.

 

يبدو أن الحرق في الهواء الطلق في لبنان يؤثر على المناطق ذات الدخل المنخفض أكثر من غيرها. حصلت هيومن رايتس ووتش على خريطة للمكبات المكشوفة من وزارة البيئة و”برنامج الأمم المتحدة الإنمائي”، يظهر فيها أن بالرغم من وجود أكثر من 100 مكب مكشوف في بيروت وجبل لبنان، وهي من المناطق الأكثر ثراء في البلاد (ويقطنها 50% من السكان)، يتم حرق 9 منها فقط. لكن هناك نحو 150 مكبا مكشوفا يتم حرقها في مختلف أنحاء البلاد، حيث يقطن الـ 50% الآخرون. معظم المكبات حيث يتم الحرق في الهواء الطلق بانتظام موجودة في بعض أفقر المناطق في البلاد، منها البقاع والنبطية والجنوب.

لم يطبق لبنان خطة وطنية لإدارة النفايات الصلبة تشمل البلد بأكمله. بحسب أحدث أرقام حكومية منشورة، أنتج لبنان أكثر من مليوني طن من النفايات المنزلية في 2014. وبحسب باحثين في “الجامعة الأميركية في بيروت”، 10 إلى 12% فقط من نفايات لبنان لا يمكن تسبيخها (تحويلها إلى سماد) أو إعادة تدويرها، مع ذلك 77% ترمى في مكبات مكشوفة أو تُطمَر. بالاعتماد على أرقام وزارة البيئة، هناك 941 مكبا مكشوفا في البلاد، منها 617 للنفايات المنزلية الصلبة. أكثر من 150 منها تُحرّق في الهواء الطلق بمعدل مرة واحدة في الأسبوع على الأقل.

وتزايد حرق النفايات في بيروت وجبل لبنان أيضا بعد انهيار نظام إدارة النفايات فيهما خلال أزمة النفايات في 2015. وقال “الدفاع المدني” اللبناني إنه استجاب لـ 3612 بلاغ حرق نفايات في الهواء الطلق منذ بداية الأزمة حتى 30 يونيو/حزيران 2017 في بيروت وجبل لبنان و814 في باقي البلاد. وفق الدفاع المدني، ارتفع عدد حالات الحرق في الهواء الطلق في جبل لبنان 330% في 2015 ثم 250% في 2016.

يعود تاريخ أزمة إدارة النفايات في لبنان إلى عدة عقود، في ظل إدارة وتخطيط حكوميين سيئين؛ دعم ومراقبة غير كافيين للمناطق خارج بيروت وجبل لبنان؛ الإفراط في استخدام المطامر والمكبات المكشوفة والحرق في الهواء الطلق؛ الاعتماد على القطاع الخاص والمانحين الدوليين؛ ونقص الشفافية. لم تعتمد إدارة النفايات في لبنان يوما على أفضل الممارسات السليمة البيئية والصحية العامة، إنما كانت القرارات المهمة تُتخذ في آخر لحظة وبشكل طارئ.

منذ انتهاء الحرب الأهلية اللبنانية في 1990، ركزت الحكومة المركزية جهودها في إدارة النفايات على بيروت وجبل لبنان، تاركة البلديات في المناطق الأخرى إلى حد كبير تعتمد على نفسها.

يشتكي المسؤولون البلديون خارج بيروت وجبل لبنان من أن الحكومة المركزية لا تزودهم بالدعم المالي أو التقني المناسبين لإدارة النفايات. وقال معظمهم إن الحكومة تأخرت في توزيع مستحقات “الصندوق البلدي المستقل” في السنوات الأخيرة، ما صعّب على البلديات الاستثمار في إدارة النفايات الصلبة. حسب تقرير لـ “المركز اللبناني للدراسات”، لم يكن صرف أموال الصندوق البلدي منتظما وكان يتأخر لأشهر ويتبع معايير متغيّرة. وجد تقرير لوزارة البيئة في 2010 أن هذا التأخير أدى إلى نشوء المكبات المكشوفة. مع أن بعض البلديات اتخذت خطوات مؤخرا لضبط الحرق في الهواء الطلق، عبّر السكان عن إحباطهم من عدم اتخاذ السلطات شكواهم على محمل الجد ومن التأخير في التحرّك، رغم تكرار الصرخة والاعتراض. كما عبّر السكان عن إحباطهم من أنه بالرغم من الشكاوى المتكررة لدى البلديات حيث يتم الحرق، لم يُحاسَب أحد.

وزارة البيئة مسؤولة عن المراقبة البيئية، ولكن يبدو أنها تفتقر لما يلزم من موظفين وتمويل للقيام بعملها كما يجب. في 2010، كانت ميزانية وزارة البيئة 7.325 مليار ليرة لبنانية (ل.ل.) فقط (4.88 مليون دولار أمريكي (د.أ.)).

خلال أزمة 2015، تكدست النفايات في شوارع بيروت وجبل لبنان بعدما أغلقت الحكومة مطمر الناعمة بدون إيجاد بديل. أنهى قرار حكومي في مارس/آذار 2016 الأزمة عبر إنشاء مطمرَين مؤقتين والدعوة إلى البحث عن حل يحوّل النفايات إلى طاقة على المدى الطويل. أدت هذه الخطة إلى إزالة النفايات من شوارع بيروت وجبل لبنان، غير أن المطمرَين الجديدين غارقان في الدعاوى القضائية، ويقال إنهما سيبلغان سعتهما القصوى في 2018 – أي قبل سنتين كاملتين من التاريخ الذي قدرته الحكومة بشكل أوّليّ في 2020. تركزت نقاشات البحث عن حل طويل الأمد حول المحارق، غير أن خبراء الصحة العامة وناشطين بيئيين أثاروا مخاوف حول استخدام المحارق كحل دائم في لبنان، وتحديدا غياب إطار إداري للنفايات والمراقبة المستقلة والانبعاثات وكلفة الحرق العالية. حاليا، يستمر العمل بالمكبات المكشوفة والمطامر في جميع أنحاء البلاد.

أجرت هيومن رايتس ووتش بحثا في 15 بلدية تحضيرا لهذا التقرير. وجدت أنه في حين اتخذ عدد من هذه البلديات خطوات لضبط حرق النفايات في الهواء الطلق والاستثمار في منشآت حديثة لمعالجة النفايات، تعاني معظم هذه المشاريع من التأخير في التنفيذ وتعتمد على تمويل من دول أجنبية ومنظمات دولية.

وافقت الحكومة على مشروع قانون متكامل لإدارة النفايات الصلبة وأحالته على البرلمان في 2012. من شأن هذا القانون إنشاء مجلس موحّد لإدارة النفايات الصلبة ترأسه وزارة البيئة، ويكون مسؤولا عن اتخاذ القرارات ومعالجة النفايات على المستوى الوطني، بينما يترك مهمة جمع النفايات للسلطات المحلية. غير أن البرلمان لم يوافق على المشروع بعد.

ينتهك الحرق في الهواء الطلق قوانين حماية البيئة اللبنانية، التي تمنع انبعاث الملوثات في الهواء، بما فيها الروائح المضرّة والمزعجة. افتقار الحكومة للعمل الفعال في مواجهة انتشار حرق النفايات في الهواء الطلق، ونقص المراقبة الملائمة والمعلومات حول ضررها على الصحة، ينتهكان التزامات لبنان بموجب القانون الدولي، منها واجب الحكومة احترام وحماية الحق بالصحة.

على لبنان فرض حظر على حرق النفايات في الهواء الطلق، كما على وزارة البيئة والقضاء محاسبة المخالفين. على وزارة البيئة مراقبة التلوث البيئي الناجم عن المكبات المكشوفة والحرق في الهواء الطلق ونشر النتائج. وعلى وزارة الصحة مراقبة الآثار الصحية لهذه المكبات والحرق ونشر النتائج، ونصح السكان حول كيفية التخفيف من المخاطر الصحية. وعلى البرلمان تبني قانون وطني حول إدارة متكاملة للنفايات الصلبة، يشمل البلد بأكمله وليس فقط بيروت وجبل لبنان، ويأخذ بعين الاعتبار الآثار البيئية والصحية المرافقة. 

 

للاطلاع على التقرير من هنا

 

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى